فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن عرفة: الضلالة عند العرب سلوك غيرِ سبيل القصد؛ يقال: ضلّ عن الطريق وأضلّ الشيء إذا أضاعه.
وخُصّ في الشرع بالعبارة في العدول عن السداد في الاعتقاد دون الأعمال؛ ومن غريب أمره أنه يعبر به عن عدم المعرفة بالحق سبحانه إذا قابله غفلة ولم يقترن بعدمه جهل أو شك، وعليه حمل العلماء قوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَآلًا فهدى} [الضحى: 7] أي غافلًا، في أحد التأويلات، يحققه قوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52].
الخامسة روى عبد الله بن عبد الحكم وأشهب عن مالك في قوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} قال: اللَّعِب بالشِّطْرَنْج والنَّرْدِ من الضلال.
وروى يونس عن ابن وهب أنه سئل عن الرجل يلعب في بيته مع امرأته بأربع عشرة؛ فقال مالك: ما يعجبني! وليس من شأن المؤمنين، يقول الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال}.
وروى يونس عن أشهب قال: سئل يعني مالكًا عن اللّعب بالشطرنج فقال: لا خير فيه، وليس بشيء وهو من الباطل، واللعب كله من الباطل، وإنه لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب عن الباطل.
وقال الزهري لما سئل عن الشطرنج: هي من الباطل ولا أُحبها.
السادسة اختلف العلماء في جواز اللَّعِب بالشطرنج وغيره إذا لم يكن على وجه القِمار؛ فتحصيل مذهب مالك وجمهورِ الفقهاء في الشطرنج أن من لم يقامر بها ولعب مع أهله في بيته مستترًا به مرة في الشهر أو العام، لا يُطَّلعُ عليه ولا يُعلم به أنه مَعْفُوٌّ عنه غير محرم عليه ولا مكروه له، وأنه إن تَخَلّع به واشتهر فيه سقطت مروءته وعدالته ورُدّت شهادته.
وأما الشافعيّ فلا تسقط في مذهب أصحابه شهادةُ اللاعب بالنّرد والشِّطرنج، إذا كان عدلًا في جميع أصحابه ولم يظهر منه سفه ولا رِيبة ولا كبيرة إلا أن يلعب به قمارًا، فإن لعب بها قمارًا وكان بذلك معروفًا سقطت عدالته وسفّه نفسه لأكله المال بالباطل.
وقال أبو حنيفة: يكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكلّ اللهو؛ فإن لم تظهر من اللاعب بها كبيرة وكانت محاسنه أكثر من مساويه قبلت شهادته عندهم.
قال ابن العربي: قالت الشافعية إن الشطرنج يخالف النرد لأن فيه إكداد الفهم واستعمال القريحة.
والنرد قِمار غَرَر لا يعلم ما يخرج له فيه كالاستقسام بالأزلام.
السابعة قال علماؤنا: النرد قطع مملوءة من خشب البقس ومن عظم الفيل، وكذا هو الشطرنج إذ هو أخوه غُذِّي بلِبانه.
والنرد هو الذي يعرف بالباطل ويعرف بالكِعاب ويعرف في الجاهلية أيضًا بالأَرُنْ ويعرف أيضًا بالنَّرْدَشِير.
وفي صحيح مسلم عن سليمان بن بُريدة عن أبيه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمِه» قال علماؤنا: ومعنى هذا أي هو كمن غمس يده في لحم الخنزير يهيّئه لأن يأكله، وهذا الفعل في الخنزير حرام لا يجوز؛ يبيّنه قوله صلى الله عليه وسلم: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله» رواه مالك وغيره من حديث أبي موسى الأشعري وهو حديث صحيح، وهو يحرّم اللعب بالنرد جملة واحدة وكذلك الشطرنج، لم يستثن وقتًا من وقت ولا حالًا من حال، وأخبر أن فاعل ذلك عاصٍ لله ورسوله؛ إلا أنه يحتمل أن يكون المراد باللعب بالنرد المنهيّ عنه أن يكون على وجه القمار؛ لما رُوي من إجازة اللعب بالشطرنج عن التابعين على غير قِمار.
وحَمْلُ ذلك على العموم قمارًا وغير قمار أولى وأحوط إن شاء الله.
قال أبو عبد الله الحليميّ في كتاب منهاج الدين: ومما جاء في الشِّطرنج حديث يروى فيه كما يروى في النرد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من لعب بالشِّطرنج فقد عصى الله ورسوله» وعن عليّ رضي الله عنه أنه مَرّ على مجلس من مجالس بني تميم وهم يلعبون بالشطرنج فوقف عليهم فقال: أمَا والله لغير هذا خلقتم! أمَا والله لولا أن تكون سُنّة لضربت به وجوهكم.
وعنه رضي الله عنه أنه مَرّ بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؛ لأن يَمَسّ أحدكم جمرًا حتى يطفأ خَيْر من أن يمسها.
وسئل ابن عمر عن الشطرنج فقال: هي شر من النرد.
وقال أبو موسى الأشعري: لا يلعب بالشطرنج إلا خاطئ.
وسئل أبو جعفر عن الشطرنج فقال: دعونا من هذه المجوسية.
وفي حديث طويل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «وأن من لعب بالنرد والشطرنج والجوز والكِعاب مقَته الله ومن جلس إلى من يلعب بالنرد والشطرنج لينظر إليهم مُحيت عنه حسناته كلها وصار ممن مقته الله» وهذه الآثار كلها تدلّ على تحريم اللعب بها بلا قِمار، والله أعلم.
وقد ذكرنا في المائدة بيان تحريمها وأنها كالخمر في التحريم لاقترانها به، والله أعلم.
قال ابن العربي في قبسه: وقد جوّزه الشافعي، وانتهى حال بعضهم إلى أن يقول: هو مندوب إليه، حتى اتخذوه في المدرسة؛ فإذا أعيا الطالب من القراءة لعب به في المسجد.
وأسندوا إلى قوم من الصحابة والتابعين أنهم لعبوا بها؛ وما كان ذلك قطّ! وتالله ما مستها يَدُ تَقِيّ.
ويقولون: إنها تَشْحَذ الذهن، والعِيان يكذبهم، ما تبحّر فيها قطُّ رجل له ذهن.
سمعت الإمام أبا الفضل عطاء المقدسي يقول بالمسجد الأقصى في المناظرة: إنها تعلم الحرب.
فقال له الطَّرْطُوشيّ: بل تفسد تدبير الحرب؛ لأن الحرب المقصود منها الملِك واغتياله، وفي الشِّطرنج تقول: شاهْ إياك: الملِك نَحِّه عن طريقي؛ فاستضحك الحاضرين.
وتارة شدّد فيها مالك وحرمها وقال فيها: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلاَّ الضَّلاَلُ}.
وتارة استهان بالقليل منها والأهون؛ والقول الأوّل أصح والله أعلم.
فإن قال قائل: روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سئل عن الشطرنج فقال: وما الشطرنج؟ فقيل له: إن امرأة كان لها ابن وكان ملِكًا فأُصيب في حرب دون أصحابه؛ فقالت: كيف يكون هذا أَرُونيه عِيانًا؛ فعُمل لها الشطرنج، فلما رأته تسلت بذلك.
ووصفوا الشطرنج لعمر رضي الله عنه فقال: لا بأس بما كان من آلة الحرب؛ قيل له: هذا لا حجة فيه لأنه لم يقل لا بأس بالشطرنج وإنما قال لا بأس بما كان من آلة الحرب.
وإنما قال هذا لأنه شُبّه عليه أن اللعب بالشطرنج مما يستعان به على معرفة أسباب الحرب، فلما قيل له ذلك ولم يحط به علمه قال: لا بأس بما كان من آلة الحرب، إن كان كما تقولون فلا بأس به، وكذلك من روي عنه من الصحابة أنه لم ينه عنه، فإن ذلك محمول منه على أنه ظنّ أن ذلك ليس يُتَلَهّى به، وإنما يراد به التسبب إلى علم القتال والمضاربة فيه، أو على أن الخبر المسنَد لم يبلغهم.
قال الحَلِيمِيّ: وإذا صح الخبر فلا حجة لأحد معه، وإنما الحجة فيه على الكافّة.
الثامنة ذكر ابن وهب بإسناده أن عبد الله بن عمر مَرّ بغلمان يلعبون بالكُجّة، وهي حفر فيها حصًى يلعبون بها، قال: فسدّها ابن عمر ونهاهم عنها.
وذكر الهرويّ في باب (الكاف مع الجيم) في حديث ابن عباس: في كل شيء قِمار حتى في لعب الصبيان بالكُجّة؛ قال ابن الأعرابي: هو أن يأخذ الصبي خرقة فيدوّرها كأنها كرة، ثم يتقامرون بها.
وكج إذا لعب بالكُجّة.
قوله تعالى: {فأنى تُصْرَفُونَ} أي كيف تَصرفون عقولكم إلى عبادة ما لا يرزق ولا يُحيي ولا يُميت. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)}
{فَذَلِكُمُ} فذلكةٌ لما تقدم أي ذلكم الذي اعترفتم باتصافه بالنعوت المذكورةِ وهو مبتدأٌ وقوله تعالى: {الله} خبرُه وقوله تعالى: {رَبُّكُمْ} أي مالكُكم ومتولي أمورِكم على الإطلاق بدلٌ منه أو بيان له، وقوله تعالى: {الحق} صفةٌ له أي ربكم الثابتُ ربوبيتُه والمتحققُ ألوهيتُه تحققًا لا ريب فيه {فَمَاذَا} يجوز أن يكون الكلُّ اسمًا واحدًا قد غلب فيه الاستفهامُ على اسم الإشارةِ وأن يكون ذا موصولًا بمعنى الذي أي ما الذي {بَعْدَ الحق} أي غيرُه بطريق الاستعارةِ، وإظهارُ الحق إما لأن المرادَ به غيرُ الأول وإما لزيادة التقريرِ ومراعاةِ كمالِ المقابلةِ بينه وبين الضلالِ، والاستفهامُ إنكاريٌّ بمعنى الوقوعِ ونفيِه أي ليس غيرُ الحق {إِلاَّ الضلال} الذي لا يختاره أحدٌ فحيث ثبت أن عبادةَ من هو منعوتٌ بما ذكر من النعوت الجميلةِ حقٌّ ظهر أن ما عداها من عبادة الأصنامِ ضلالٌ محضٌ إذ لا واسطة بينهما، وإنما سُميت ضلالًا مع كونها من أعمال الجوارحِ باعتبار ابتنائِها على ما هو ضلالٌ من الاعتقاد، والرأيُ هذا على تقدير كونِ الحقِّ عبارةً عن التوحيد، وأما على تقدير كونِه عبارةً عن الأول فالمرادُ بالضلال هو الأصنامُ لا عبادتُها، والمعنى فماذا بعد الربِّ الحقِّ الثابتِ ربوبيّتُه إلا الضلالُ أي الباطلُ الضائعُ المضمحلُّ، وإنما سمي بالمصدر مبالغةً كأنه نفسُ الضلالِ والضياعِ وهذا أنسبُ بقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} على التفسير الثاني.
{فأنى تُصْرَفُونَ} استفهامٌ إنكاريٌّ بمعنى إنكارِ الواقعِ واستبعادِه والتعجيبِ منه، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكارِ إلى نفس الفعلِ لأن كلَّ موجودٍ لابد من أن يكون وجودُه على الحال من الأحوال قطعًا فإذا انتفى جميعُ أحوالِ وجودِه فقد انتفى وجودُه على الطريق البرهاني كما مر مرارًا، والفاءُ لترتيب الإنكارِ على ما قبله أي كيف تُصرفون من الحق الذي لا محيدَ عنه وهو التوحيدُ إلى الضلال عن السبيل المستبينِ وهو الإشراكُ وعبادةُ الأصنام أو من عبادة ربكم الحقِّ الثابتِ ربوبيتُه إلى عبادة الباطلِ الذي سمعتم ضلالَه وضياعَه في الآخرة، وفي إيثار صيغةِ المبنيِّ للمفعول إيذانٌ بأن الانصرافَ من الحق إلى الضلال مما لا يصدُر عن العاقل بإرادته وإنما يقع عند وقوعِه بالقسر من جهة صارفٍ خارجيَ. اهـ.

.قال الألوسي:

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} فذلكة لما تقرر والإشارة إلى المتصف بالصفات السابقة حسبما اعترفوا به، وهي مبتدأ والاسم الجليل صفة له و{رَبُّكُمْ} خبر و{الحق} خبر بعد خبر أو صفة أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز أن يكون الاسم الجليل هو الخبر و{رَبُّكُمْ} بدل منه أو بيان له و{الحق} صفة الرب أي مالككم ومتولي أموركم الثابت، ربوبيته والمتحقق الوهيته تحققًا لا ريب فيه {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع الا الضلال فمن تخطى الحق وهو عبادة الله تعالى وحده لابد وإن يقع في الضلال وهو عبادة غيره سبحانه على الانفراد أو الاشتراك لأن عبادته جل شأنه مع الاشتراك لا يعتد بها فما اسم استفهام وذا موصول، ويجوز أن يكون الكل اسمًا واحدًا قد غلب فيه الاستفهام على اسم الإشارة، وهو مبتدأ خبره {بَعْدَ الحق} على ما في النهر والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الوقوع ونفيه، و{بَعْدَ} بمعنى غير مجاز والحق ما علمت، وهو غير الأول ولذا أظهر، وإطلاق الحق على عبادته سبحانه وكذا اطلاق الضلال على عبادة غيره تعالى لما أن المدار في العبادة الاعتقاد، وجوز أن يكون الحق عبارة عن الأول والاظهار لزيادة التقرير ومراعاة كمال المقابلة بينه وبين الضلال والمراد به هو الأصنام، والمعنى فماذا بعد الرب الحق الثابت ربوبيته إلا الضلال أي الباطل الضائع المضمحل وإنما سمي بالمصدر مبالغة كأنه نفس الضلال والضياع، وقيل: المراد بالحق والضلال ما يعم التوحيد وعبادة غيره سبحانه وغير ذلك ويدخل ما يقتضيه المقام هنا دخولا أولياء، ويؤيده ما أخرجه ابن أبي حاتم عن أشهب قال: سئل مالك عن شهادة اللعاب بالشطرنج والنرد فقال أما من أدمن فما أرى شهادتهم طائلة يقول الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} فهذا كله من الضلال.
{فَإِنّي تُصْرَفُونَ} أي فكيف تصرفون عن الحق إلى الضلال والاستفهام إنكاري بمعنى إنكار الواقع واستبعاده والتعجب منه، وفيه من المبالغة ما ليس في توجيه الإنكار إلى نفس الفعل فإنه لابد لكل موجود من أن يكون وجوده على حال من الأحوال فإذا انتفى جميع أحوال وجوده فقد انتفى وجوده على الطريق البرهاني والفاء لترتيب الإنكار والتعجب على ما قبله، ولعل ذلك الإنكار والتعجب متوجهان في الحقيقة إلى منشأ الصرف وإلا فنفس الصرف منه تعالى على ما هو الحق فلا معنى لإنكاره والتعجب منه مع كونه فعله جل شأنه، وإنما لم يسند الفعل إلى الفاعل لعدم تعلق غرض به.
وذهب المعتزلة أن فاعل الصرف نفسه المشركون فهم الذين صرفوا أنفسهم وعدلوا بها عن الحق إلى الضلال بناء على أن العباد هم الخالقون لأفعالهم، وأمر الإنكار والتعجب عليه ظاهر، وإنما لم يسند الفعل إلى ضميرهم على جهة الفاعلية إشارة إلى أنه بلغ من الشناعة إلى حيث أنه لا ينبغي أن يصرح بوقوعه منهم فتدبر. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ} الفاء للتفريع على الإنكار الذي في قوله: {أفلا تتقون} [يونس: 31]، فالمفرع من جملة المقول.
واسم الإشارة عائد إلى اسم الجلالة للتنبيه على أن المشار إليه جدير بالحكم الذي سيذكر بعد اسم الإشارة مِن أجْل الأوصاف المتقدمة على اسم الإشارة وهي كونه الرازق، الواهب الإدراك، الخالق، المدبر، لأن اسم الإشارة قد جمعها.
وأومأ إلى أن الحكم الذي يأتي بعده معلل بمجموعها.
واسم الجلالة بيان لاسم الإشارة لزيادة الإيضاح تعريضًا بقوة خطئهم وضلالهم في الإلهية.